لقد أنتقلت ريادة العالم عبر تاريخه من مكان إلى مكان , حيثما تكون الدولة التى تحتضن العلماء وتشجعهم وتبـذل خلاصة نتاجها القومى لدفع مسيرة التقدم العلمى ,حدث ذلك فى دول العالم القديم مصر والعراق والهند والصين واليونان وفارس , ثم فى الدول الإسلامية , ثم أنتقلت إلى أوروبا , ثم العالم الجديد . والعلم ليس له وطن , فحقائق العلم لاتعرف الحدود ولا السياسة ولا العصبية والقبلية .إن العلم مشروع جماعى تشارك فيه كل العقول , بصرف النظر عن الجنس واللون والعقيدة والوطن , واعلم متواصل , فإن كل عالم يضيف إلى ما اكتشفه سلفه فى فيض متصل , فالعلم بناء , طوبى لمن أضاف إليه لبنة واحدة , ولاشك أن الإنسانية أستغرقت زمنا طويلا فى وضع الأساس السليم للعلوم الطبيعية , ولأن معدل تزايد المعرفة يتناسب مع كم المعرفة فإن حصيلة تراكم المعرفة الإنسانية أصبح يتزايد الأن بمعدل رهيب , وسيظل هـذا المعدل فى تزايد , ولأن الفضل فى تزايد المعرفة يرجع إلى العلماء فإن الدول المتقدمة تستثمر فى تكوين كوادر العلماء وإعداد أجيال جديدة منهم لتواصل دفع تقدم البحث العلمى والأكتشافات والأختراعات على جميع الجبهات , هـذه هى سمة التقدم وشريطة الريادة فى العالم , ومن ثم فإن مصر فى أشد الحاجة إلى الاهتمام بتحويل شبابها إلى أجيال متعاقبة من العلماء النابهين.
إن من صفات العالم حب البحث عن المعرفة , وحب التفوق , والصبر , والمثابرة , إن العالم يتوق إلى الفهم العميق والتحليل , ويسعد سعادة لاتعادلها سعادة حين يصل إلى اكتشاف حقيقة علمية , أو تفسير لغز محير فى مجالات العلوم المختلفة , ويتحمل من أجل ذلك التعب والسهر والعناء , والعالم يدرك أنه لايستطيع وحده أن يفعل كل شئ , بل يعتمد أولا على ما قدمه الأخرون وما سبقوه به , ويعلم أن روح الفريق أساس للوصول إلى النتيجة.
والعالم بما حباه الله من قوة الملاحظة والقدرة على الاستنتاج والتحليل قادر على أن يرى ببصيرته الحقيقة ويستخلص النتائج , والعالم يعتمد على المنطق والتجريب والاقتناع ولايركن إلى الأوهام أو يأخـذ بالظن والحدس والتخمين , ويظل دائما متشككا مترددا” حتى يستيقن ويستوثق ويتأكد مما يشاهده ويجربه بنفسه , والعالم الحق يدرك مفهوم الأمانة العلمية , ويتسم بالتواضع , لأنه يكتشف دائما كلما تعلم الجديد أن مايجهله أكثر بكثير مماعرفه , فيزداد تواضعا وشوقا لمعرفة المزيد , فمتى يصل شبابنا إلى هـذه الدرجة االعالية من حب العلم ؟ إن مفهوم التعليم يجب أن يتغير من وسيلة للحصول على شهادة إلى تدريب على التعلم , فإن العالم لا يحتاج إلى وسائل للضغط والتخويف والترهيب للتعلم لانه يمتلك قوة دفع ذاتية للعمل والعطاء.
إن ترسيخ هذه المفاهيم تحتاج إلى تربية علمية , حيث يتحول التعلم إلى آلية ذاتية وطبيعة مكتسبة للبحث عن المعرفة , لاتحتاج إلى ترهيب وتخويف وضغط للاستـذكار من أجل امتحان أو شهادة , ولا تحتاج إلى دروس خصوصية , ولاحفظ ولاتلقين , ولن يأتى ذلك إلا إذا أصبح العلم هو آية يقبل عليها الطفل والشاب طواعية وبإرادته ورغبته , شأن الرياضة والأسفار والتلفزيون والفيديو والألعاب والهوايات الخاصة , والشغف بالعلم هو أول خطوة لتكوين جيل العلماء .
وإذا كان هناك من يظن أننا مهما فعلنا فلن نستطيع اللحاق بركب التقدم فى العالم الجديد لازدياد الفجوة فإننا نؤمن إيمانا راسخا – بعيدا عن العواطف والشعارات – ان اجتياز الفجوة ممكن إذا تحول حب العلم إلى حقيقة , وأحسن توجيه طاقات الأمة فى مجالات مختارة من العلم تعتمد على القدرات الـذهنية والإبداعية , إن الأمة العربية والإسلامية قادت العالم ووضعت أساس العلم الحديث , ولم تعتمد فى ريادتها على حركة النقل والترجمة , كما يظن البعض , بل أضاف علماؤها إلى ما كان معروفا من قبل , وصححوا مفاهيم خاطئة , بل واخترعوا علوما بأكملها لم تعرفها الإنسانية من قبل . ومن ينكر فضل علماء العرب والمسلمين إما جاهل أو حاقد , فما الـذى جرى حتى تخلفت الأمة العربية والإسلامية وسلمت الريادة العلمية لغيرها ؟ إن الغرب تلقى علومه من منارة العلم التى أنشأها المسلمون فى الأندلس , وسرعان ما ضعفت الإرادة العلمية والحرص على التقدم والرغبة فى الريادة والتفوق لدى العرب والمسلمين وورثها غيرهم , فأنشأوا حضارتهم على أساسها , وهل نبكى اليوم على المجد الضائع ؟ أننا إذا أدركنا سبب ما حدث فإنه بإمكاننا تصحيح المسار.
إن النهضة العربية ممكنة باستيعاب دروس الماضى وتكريس الجهود وتحفيز النفوس والاعتماد على الذات فلن يعطينا أحد ثمرة عقله ليقيلنا من عترتنا , ولكن العلم متاح وليس حكرا على أحد, فإذا عقدنا العزم فلن نعجز أن نجد ما نحتاج إليه للتقدم ولن نعدم الوسيلة , فالإمكانات متاحة على اتساع الأمة العربية , ولكن المسألة مسألة أولويات , والأمر كله بين أيدينا , إن التقدم والتخلف فى نهاية المطاف إرادة شعب وإجماع أمة , ولايأتى التقدم تلقائيا ولا بالتمنى , ولايأتى لمجرد وجود الثروة , بل يأتى أولا وأخيرا بوجود العلماء وتكريس جهود الدولة لاحتضانهم وتشجيعهم .
إن المركز الإستكشافى للعلوم والتكنولوجيا يسعى فى المقام الأول إلى تشجيع الموهوبين ورعاية المبتكرين إلى جانب نشر التوعية العلمية , إن المركز يسعى إلى تكوين أجيال متعاقبة من العلماء , من الماضى البعيد والحاضر القريب تحفيز لشبابنا كى يتأسى بهؤلاء العلماء ويعلم أولا وأخيرا أنهم بشر عاديون – وإن كانوا متميزين – وليعلم شبابنا أيضا أن من أهم دعائم مراكزالبحوث والجامعات فى أمريكا وأوروبا علماء من بلاد المشرق , والتى يطلقون عليها دول العالم الثالث , الأمل إذا متاح على المستوى الفردى لأن يصبح شبابنا علماء على المستوى العالمى , ولعل فوز د. أحمد زويل بجائزة نوبل للكيمياء عام1999دليل على أن أرض مصر بخير فهى قادرة على انجاب العلماء إذا توافرت لهم الامكانات والمناخ العلمى السليم .
ولكن كيف يمكن أن تستفيد منهم بلادنا فى المقام الأول ؟ لابد إذا من إنشاء نظام يرعى المواهب والطاقات كى تتحول الأفكار إلى ابتكارات واختراعات وقدرات إبداعية خلاقة تسهم فى الازدهار الاقتصادى على المستوى الفردى وعلى المستوى الجماعى فى مصر .
إن المركز الإستكشافى للعلوم والتكنولوجيا هو المحمية الطبيعية والحاضنة والمصنع للعلماء الصغار الـذين سيقودون حركة التقدم العلمى فى مصر بإذن الله فى القرن الجديد , فهم الأمل والرجاء فى مستقبل أفضل لمصر بإذن الله .